الخطاب السياسيعاممساهمة

الخطاب السياسي الفعال: ما لذي يمكن أن تستقيده المعارضة من تفاعلات حوار الهجرة؟

يبدو جليا حتى لمن يراقب التطورات عن بعد أن موضوع التعاون بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي-والذي لا يزال في طور المفاوضات-لفت انتباه أعداد كبيرة من جميع شرائح المجتمع وأجّج نقاشا حادا على كافة المستويات السياسية والشعبية.

وبغض النظر عن المواقف المختلفة حول هذا الموضوع وانعكاساته المحتملة، يمكن للمتأمل اليقظ في مسار هذا الحوار استخلاص درسين غاية في الأهمية يبعثان على التفاؤل ويمكن استعمالهما كنموذج لتغيير كيفية الممارسة الديمقراطية وتسيير شؤون الدولة في المستقبل نحو الأفضل:

لدرس الأول: الخطاب السياسي سلاح تتناسب فاعليته مع مدى مصداقيته وصدقه

الخطاب السياسي هو الأداة التي تحاول أحزاب المعارضة والقوى الفعالة الأخرى من منظمات وصحافة وأفراد بواسطتها المشاركة في صنع القرار والتأثير على الرأي العام. فهو (الخطاب السياسي) مجرد سلاح في ميدان المعركة السياسية تتوقف فعاليته على مدى مصداقيته وصدقه، إضافة إلى خبزة وكفاءة المستخدِم. لكن العامل الذي لا تمكن الاستهانة به هو استخدام الذخيرة الحية ذات العيار المناسب حيث إن ذخيرة المسدس لا تصلح للبندقية وذخيرة البندقية لا تصلح للقنابل اليدوية، إلخ. فمن يضغط على الزناد مهما كانت مهارته يبقى حظه من إصابة الهدف معدوما ما لم يستخدم ذخيرة متطابقة مع سلاحه والهدف االذي تقصد إصابته.

ولعل واحدا من أهم أنواع الذخيرة الحية للخطاب السياسي التي لا تكاد تكون غائبة في الساحة الموريتانية هي استعمال الحقائق والوثائق الأصلية التي تثبت حجة معينة أو تفند أخرى بصورة لا مراء فيها. فبدون الحقائق البيِّنة يختزل الحوار إلى مجرد قيلٍ وقالٍٍ أشبه ما يكون ب “توكاف آسواغة” لا يوفّر أي أدلة دامغة، وهو ما يعرف شعبيا ب”تعمار اشدوگ”.

مثلا، بدأ الحوار الحالي حول مشروع التعاون بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي في مجال مكافحة الهجرة غير المنظمة يأخذ منعطفا جديدا بعد أن تداولت وسائل الإعلام المحلية (بما فيها موقع “الأخبار”) محتويات مسودة الاتفاقية التي لا زال الجانبان يتفاوضان على بنودها. لكن ما يستحق وقفة تأمل هو أن ظهور هذه المسودة ومحتوياتها غيَّرا طبيعة ونوعية هذا الحوار من نقاش تخمينات وإشاعات إلى نقاش حقائق معينة أثبتها الحبر والورق، ولم يعد من الممكن تجاهلها بحجة أنها مجرد دعايات ومغالطة تسوقها جهات معارضة أو معادية. بروز هذه المسودة أيضا أدى إلى تطورين متزامنين وربما مترابطين:

أولا: تزايد اهتمام الرأي العام بالقضية نظرا لنتائجها السلبية (وربما الإيجابية) المحتملة. فبينما تمركز الحوار حول نقاش الجوانب السلبية للاتفاقية المرتقبة والتي هي فعلا أمر مطروح، أهملت أغلبيته الإيجابيات التي يمكن أن تفيد الدولة والشعب الموريتانيين.  هذه الجوانب تشمل المساعدات المالية وتطوير وسائل مراقبة الحدود البحرية والبرية وتفعيل إدارة الهجرة. إضافة إلى ذلك، تزامن الاهتمام الواسع للرأي العام بهذه القضية مع، أو أدى إلى اهتمام موازي من الحكومة تمثل فيي تنظيم حملة إعلامية لشرح موقف الحكومة من الموضوع.

ثانيا: بدأت الحكومة بتنظيم حملة إعلامية _شارك فيها الحزب الحاكم- كان القصد من ورائها طمأنة الرأي العام وتأكيد أن المسودة ما زالت قيد المفاوضات، علما أنها (الحكومة) لم تكن بحاجة إلى هذا التأكيد البديهي. لكن هذا التأكيد كان نتيجة لأنها (الحكومة) وجدت نفسها في موقف يُحتِّم عليها محاولة كسب تأييد الرأي العام من خلال طمأنة الجمهور على تمسكها بصيانة المصلحة والسيادة الوطنيتين والدفاع عنهما. ورغم أني لست على دراية مباشرة بالدواعي الفعلية لهذه الحملة الإعلامية، إلا أنه من الواضح أنها كانت عملية تجميلية تهدف إلى تلميع (أو زيادة تلميع) صورة الحكومة والحزب الحاكم أو (على الأقل) منع الأصوات المعارضة من تلطيخ هذه الصورة. وتجدر الإشارة إلى أن تلميع صورة الحكومة في هذه المرحلة بالذات له أهميته الخاصة في وجه الانتخابات المقبلة. الأمر الذي قد يفسر مساهمة الحزب الحاكم في هذه الحملة لدعم ومساندة المجهودات الحكومية الرسمية.

الدرس الثاني: تكرار فعل نفس الشيء بنفس الطريقة لن يؤدي أبدا إلى نتائج مختلفة

الدرس الثاني: تكرار فعل نفس الشيء بنفس الطريقة لن يؤدي أبدا إلى نتائج مختلفة

يتبين مما سبق أن واحدة من أهم سبل جلب انتباه الرأي العام من مساندين ومعارضين، على حد سواء، هي توفير الوثائق الأصلية للجمهور ونشر المعلومات المهمة كما هي، من مصادرها الأصلية. وانتباه الرأي العام بدوره هو أنجع وسيلة لجلب انتباه الحكومة والضغط عليها لمراجعة مواقفها وطرق معالجتها للأمور العامة، حتى وإن لم يؤد ذلك إلى تغيير شامل، أو جذري، أو سريع.

لقد قدمت في الماضي نصائح مجانية للحكومة حول طرق تعزيز ثقة المواطن في الإدارات الحكومية، والآن يأتي دور المعارضة لتتلقى نصيبها من هذه النصائح المجانية، و-بطبيعة الحال- لها كامل الحرية في إهمالها ورميها في سلة القمامات.  

فمهما كانت الحكمة من وراء اتباع الأساليب والطرق المستخدمة حاليا، بات جليا أنها لم، وربما لن تنجح في تحقق النتائج المرجوة

المعارضة لن تحقق أي تقدم ما لم تغير أساليبها (وربما أيضا قياداتها) وطرق مخاطبتها للمواطنين وتعاملها مع الحكومة.  فمهما كانت الحكمة من وراء اتباع الأساليب والطرق المستخدمة حاليا، بات جليا أنها لم، وربما لن تنجح في تحقق النتائج المرجوة مما لا يدع لها (المعارضة) سوى خيارات محدودة.  أحد هذه الخيارات (وهو الأسهل) أن يبقى الحال على هو عليه وأن ترضى بالنتائج الحالية المخيبة للأمل.  لكن هناك أيضا خيار آخر وهو (الأصعب) أن تتبنّى استراتيجيات جديدة (دون تغيير المبادئ والمواقف بالضرورة) لتوسيع قاعدتها الشعبية بما في ذلك:

تَبَنِّي خطابا أكثر تهذيبا:

عقود من الصراخ في وجه الحكومة ومناصريها واتهامهم (بغض النظر عن مصداقية ذلك) بالخيانة والنذالة لم تنجح في تخويفهم. كما أنها لم تغير وجهات نظرهم، أو وجهات نظر من يدعمهم لأسباب أيديولوجية، أو قبلية، أو جهوية، أو استرزاقيه. بل على العكس، قد تؤدي هذه الأساليب غير المهذبة في بعض الأحيان، والمتطرفة أو حتى المشينة في أحيان أخرى، إلى زيادة المشاعر السلبية اتجاه المعارضة لدى من لا يساندونها، وقد تؤدي إلى التشكيك في قدرتها على المساهمة الإيجابية في مسيرة بناء الدولة. كما قد تدفع هذه الأساليب أيضا بعض المناصرين إلى فقدان الثقة بالمعارضة ودفعهم إلى اعتناق أو البحث عن تيارات بديلة.

اعتماد المعلومات الصادقة بدلا من المغالطات والإشاعات ذات المصادر المشبوهة:

فقد يكون الخطاب السياسي موجها بدرجة أولى للقاعدة من مناصري المتكلم، لكنه يظل عديم الجدوى إذا لم ينجح في كسب مناصرين جدد، والذين لا يمكن لأحزاب الأقلية تحقيق أي نمو بدونهم

 إذا كانت الحكومة سيئة بالدرجة التي تزعمها المعارضة (ما صدقناها ولا كذبناها)، فيجب أن يكون من السهل إثبات ذلك (أو جله) بالوثائق والبينات الواضحة بصورة شفافة ومباشرة تتضمن أسماء مرتكبي هذه الجرائم أو حالات الفساد، وتفاصيل جرائمهم بالمكان والزمان والمحتوى. أما إذا كان الأمر لا يتعدى التشدق باتهامات ليست مدعومة بأي بينة يمكن للمواطن فحصها والتأكد من مصدرها ومصداقيتها، فإن ذلك لن يفلح في كسب دعم مناصرين جدد. فقد يكون الخطاب السياسي موجها بدرجة أولى للقاعدة من مناصري المتكلم، لكنه يظل عديم الجدوى إذا لم ينجح في كسب مناصرين جدد، والذين لا يمكن لأحزاب الأقلية تحقيق أي نمو بدونهم. إضافة إلى أن الحكومة هي أول من يعترف بوجود الفساد واستغلال السلطة ونهب الأموال العامة وتزعم (الحكومة) أنها تعمل جادة لمحاربة هذه الظواهر والجرائم. فتفشي الفساد هو حقيقة يتفق عليها جميع الموريتانيين وليس من جديد في ذلك.

تغيير الأوجُهِ أو الواجهات القيادات السياسية:

 أولويات واهتمامات المجتمع وآماله وتطلعاته تتغير عبر الأجيال والزمان، الأمر الذي يستدعي تغيير الأوجه والواجهات القيادية، خصوصا ممن يزعمون أنهم يحاربون الدكتاتورية.  فليس هناك ما يثير الشبهات في ممارسة الدكتاتورية أكثر من التشبه بزمام السلطة (أو قيادة تنظيم) عبر عقود متتالية.

 وجود نفس الأوجه والواجهات والقيادات بصورة دائمة عبر فترات زمنية طويلة يوحي بأنها ملكيات فردية أو شركات مساهمات استثمارية خاصة ينفرد فيها القائد/المالك/المساهمون بكامل حقوق التصرف فيها كما يحلو لهم. فالأحزاب السياسية ينبغي أن تكون أنظمة حيوية وديناميكية تقوم على أسس فكرية وأيديولوجية وليست مؤسسات ذات ملكية خاصة لفرد أو مجموعة شركاء.

وخلاصة القول هي إن المجتمع الموريتاني شهد تحولات اجتماعية واقتصادية ملحوظة (بغض النظر عن سلبياتها وإجاباتها) في العقود الأخيرة يجب على جميع الفاعلين السياسيين فهمها ومسايرتها والتفاعل معها بما يخدم المصلحة العامة. فالممارسة السياسية مبنية على الحوار والمنافسة الحادة بين الأفكار ومستوى الكفاءة (نظريا على الأقل). لكنها (الممارسة السياسية) في نفس الوقت تتطلب التأقلم مع تغيرات المناخ الاجتماعي والاقتصادي، وفهمٍ عميق لديناميكية الرأي العام وميكانيكيات استقطاب دعم الجمهور.

 ورغم أنه لا توجد وصفة سحرية لتحقيق النجاح في هذا الميدان، يبقى الفشل المتكرر مؤشر واضح على حاجة ملحة لتغيير الطريقة أو المظهر (القيادة)، أو دليل على رفض لأطروحة المقدمة من طرف الجمهور

 ورغم أنه لا توجد وصفة سحرية لتحقيق النجاح في هذا الميدان، يبقى الفشل المتكرر مؤشر واضح على حاجة ملحة لتغيير الطريقة أو المظهر (القيادة)، أو دليل على رفض لأطروحة المقدمة من طرف الجمهور. ويبقى لكل منظومة سياسية تحديد أي هذه الأسباب يفسر فشلها، وكيفية معالجته. 

د. أحمد ولد سيدي محمد

الدكتور احمد ولد سيدي محمد خبير في علم الأوبئة، وكاتب مهتم بالشؤون الموريتانية، مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية

مقالات مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى