
لقد تعودنا على انتقاد الحكومة ومؤسساتها لأن تأثير سيطرتها عل الأمور العامة يمس معظم جوانب حياة المواطن. لكن المعارضة كجزء منالمنظومة السياسية في البلد يُعلق عليها البعض مهما كانت قلت عدد أفراده، آمالا كبيرة في النهوض بالبلد وحماية المصلحة العامة، يجبأيضا أن تخضع لنفس معايير المراقبة وأن تنال نصيبها من النقد أو التمجيد بقدر ما تستحق. فمن مصلحة البلد أن تكون لنا معارضةمؤثرة وفعالة لكي تشكل رقابة حقيقية على الحكومة.
يبدو أن المعارضة، وللأسف الشديد، تعتبر أنها لا تتحمل أي مسؤولية فيما يتعلق بمجريات الأحداث في البلاد بحكم أنه ليس لها أيضلع في الحكم أو تأثير على الحكومة، وهو أمر له أساس من الصحة. ولكن كيف أصبحت معارضتنا مهمشة ولا تأثير لها؟ كيف لم تحققالمعارضة أي تقدم يذكر على امتداد أكثر من أربعين سنة؟
تزعم المعارضة أن الحكومة أولا، والناخبين ثانيا، هما أهم أسباب فشلها الذريع، والمزمن. وهذا أكبر خطئ منعها من تحقيق أي تقدم يذكرلأنها باتت تبحث عن حل لمشكلة مفتعلة، بدل تركيز جهودها على ما هو متاح لها من مقدرات وإمكانات وفرص. فالإنسان الذي يُحمّلالآخرين من أفراد أسرته وأساتذته وزملاء عمله، وأصدقائه دائما مسؤولية فشله دون أن يدرك أنه هو نفسه السبب الحقيقي وليس غيره، لنيكتب له النجاح طيلة حياته ما لم يكن صريحا مع نفسه.
تركيز قادة المعارضة على الآخرين كمبرر لفشلهم المخجل هو أكبر عقبة تقف في سبيل نجاحهم لأنه أعمى أبصارهم وبصيرتهم عن السبب الحقيقي الذي تجب عليهم معالجته. هذا لا يعني بالضرورة أن ظروف الانتخابات ربما كانت غير عادلة أو غير نزيهة، كما أنه لا ينفي أن الشعب قد ينقصه المستوى الكافي من الوعي بمشاكل البلاد وأسبابها. ولكن إذا كانت المعارضة عاجزة عن العمل في هذه الظروف ووضع خطة عمل تأخذها بعين الاعتبار، فلماذا يدخلون حلبة المعترك السياسي في الأصل؟ هل يتوقعون أن تمهد لهم الحكومة الطريق المؤدي إلى السلطة خاليا من العقبات ومكللا بالزهور في جو من البهجة والاحتفال؟
تركيز قادة المعارضة على الآخرين كمبرر لفشلهم المخجل هو أكبر عقبة تقف في سبيل نجاحهم لأنه أعمى أبصارهم وبصيرتهم عن السبب الحقيقي الذي تجب عليهم معالجته
الخطأ الثاني الذي ترتكبه لمعارضة والحكومة على حد السواء هو مخاطبة الشعب من منطلق نظرة دونية وبلهجة متعالية ومتكبرة، ناسين أو متجاهلين أن الشعب هو السيد الشرعي للموقف والمصدر الحقيقي لمصداقيتهم وسلطتهم. المواطن ليس جنديا توجه له أوامر يتوجب عليه طاعتها وتنفيذها في صمت كامل، دون أي نقاش أو جدال. المواطن هو سيد الطبقة السياسية التي تعمل من أجله، وله، وتتقاضى رواتبها من أمواله، وليس العكس.
لكن فهم أفراد طبقتنا السياسة لهذه العلاقة مقلوب على رأسه حيث يعتبرون أنهم هم السادة وأنهم يتفضلون بأموال الخزانة العامة علىمن يشاؤون في صورة وظيفة أو منحة، أو مساعدة، الخ. وهذا الفهم الخاطئ يمثل أحد الأسباب التي تجعل المواطن يسخط علىالسياسيين ولا يثق بأمانتهم أو حسن نياتهم. ومع ذلك فإن المعارضة أكثر عرضة لهذه المشاعر الساخطة من الحكومة، لأن الأولى تحتاجثقة ودعم المواطنين أكثر من الثانية. فالحكومة تتحكم في أجهزة الأمن ومصادر الدولة وبإمكانها تسخيرهم لخدمة مصالحها. أما المعارضةفلا حول لها ولا قوة ولا تملك سوى الخطابات والبيانات التي أثبتت التجربة أنه لا تأثير لهما.
لكن فهم أفراد طبقتنا السياسة لهذه العلاقة مقلوب على رأسه حيث يعتبرون أنهم هم السادة وأنهم يتفضلون بأموال الخزانة العامة علىمن يشاؤون في صورة وظيفة أو منحة، أو مساعدة، الخ. وهذا الفهم الخاطئ يمثل أحد الأسباب التي تجعل المواطن يسخط علىالسياسيين ولا يثق بأمانتهم أو حسن نياتهم.
السبب الثالث في فشل المعارضة، وربما الأكثر أهمية، هو انعدام أي حضور لها بصورة عملية في حياة المواطن حيث لا تكاد إنجازاتهمتقتصر على التصريحات الصحفية والخطابات. فالمعارضة لا تمتلك القدرة على إصدار قوانين تدعم أطروحاتها، أو منع سنِّ القوانين التيتعارضها مما يجعل وجودها على الساحة السياسية أقرب ما يكون إلى العدم ونحوه. كما أنه ليست لديها أية مبادرات من وشأنها تعزيزوجودها بشكل ملموس في حياة المواطن.
وتجدر الإشارة في هذا النطاق إلى أن المعارضة تمكنها الاستفادة من تجربة التيارات الإسلامية التي تمكنت من اكتساب مستويات باهرةمن الدعم الشعبي حيث ما وجدوا، رغم المعاداة والمحاربة الضارية والمحاصرة الشديدة التي يتعرضون لها من قبل جميع الحكومات،الشرقي منها أو الغربي.
التيارات الإسلامية السياسية هي فعلا مثال يقتدى به في العمل السياسي الناجح لكل من يطمح لخلق قاعدة شعبية، حتى تحت مواجهة أقسى الظروف السياسية. فبغض النظر عن أيديولوجية هذه التيارات، تتوفر فيها ببعض المميزات التي ستساهم في نجاح أي تنظيم سياسي واكتساب دعم قاعدة شعبية عريضة في فترة زمنية قصيرة. هذه الميزات هي التي جعلت التيارات الإسلامية تحظى بشعبية كبيرة تضمن لهم تحقيق انتصارات كاسحة كلما سُمح لهم بخوض الانتخابات، كما شاهدنا في الجزائر إبان التسعينيات، وغزة بعد انسحاب قوات الاحتلال، ومصر بعد ثورة الربيع العربي، نناقش بعضها فيما يلي:
التيارات الإسلامية السياسية هي فعلا مثال يقتدى به في العمل السياسي الناجح لكل من يطمح لخلق قاعدة شعبية، حتى تحت مواجهة أقسى الظروف السياسية
أولا: تسجيل حضور ملموس وجذري في حياة المواطن
الشعوب التي أنهكتها هموم توفير لقمة العيش وعناء مطاردة أسباب الرزق لا تملك متسعا من الوقت أو القدرة الذهنية اللازمة لمتابعة المداخلات البرلمانية والمقابلات والبيانات الصحفية. فإذا كانت استراتيجية توصيل رسالتك للمواطنين تعتمد على الخطاب السياسي فقط، فتأكد أن مدى انتشارها-وبتالي نجاحك- سيظل محدودا أو منعدما. ولكن إذا ساهمت في توفير خدمة يحتاجها المواطن من مصحة أو مدرسة مجانية أو بأسعار مخفضة، فإنك ستسجل حضورا قويا يبرهن على اهتمامك بهموم المواطن وحاجاته، وإحساسك بمعاناته، وسوف تتردد أصداء رسالتك في جميع المحافل والبيوت، رغم أنف من شاء أو أبى.
ثانيا: اعتماد الاتصال المباشر لاكتتاب وتعبئة الناشطين
رغم التغيرات التكنولوجية والاستعمال الوبائي لأدوات التفاصل الاجتماعي، يظل التواصل المباشر وجها لوجه هو أنجع وسيلة لتعبئةالناشطين واكتساب مناصرين جدد. والمعني بالاتصال المباشر هو المخاطبة بين شخصين أو مجموعة محدودة. فليس هناك أكثر اعتمادا على التكنولوجيا أو استخداما لها من الأمريكيين، ومع ذلك فما زالت الحملات الانتخابية تعتمد على متطوعين وناشطين يدقون على أبواب المنازل واحدا بعد الآخر لمحاولة إقناع المواطنين وفهم مطالبهم ومشاعرهم.
التوعية والتعبئة السياسية تتطلب بذل مجهودات كبيرة لأن هدفها هو تغيير، أو التأثير على معتقدات ومفاهيم ومشاعر الأفراد والجماعات بطريقة تنعكس على السلوك، وهو ما أثبتت التجربة وعلم النفس أنه أصعب ما يمكن تحقيقه. ولذلك فإن إقناع الأفراد والجماعات بأي فكرة، حقيقية كانت أو خيالية، صادقة أو كاذبة، عملية أو نظرية، يتطلب دراسة مكثفة، وتخطيط محكم، وإجراء سلسلة من التجارب الأولية للتأكد من فعالية طرق التنفيذ وإجراء تغييرات وتحسينات كلما تطلب الأمر.
التوعية والتعبئة السياسية تتطلب بذل مجهودات كبيرة لأن هدفها هو تغيير، أو التأثير على معتقدات ومفاهيم ومشاعر الأفراد والجماعات بطريقة تنعكس على السلوك، وهو ما أثبتت التجربة وعلم النفس أنه أصعب ما يمكن تحقيقه.
هذه هي المنهجية المنطقية لضمان نجاح أي مبادرة أو مشروع مهما كانت طبيعته، بما في ذلك المشاريع السياسية. منهجية تتطلب أولاإيمانًا عميقا برسالة وأهداف المشروع، إضافة إلى العمل الدؤوب. لكن أهم المكونات السحرية لطبخة النجاح السياسي هي وجودشخصيات كاريزماتية على مستويات عالية من الدراية بديناميكية مجريات الأحداث وجس نبض الشارع وتحليل تلك المعلومات للتنبؤبالاحتمالات المستقبلية، واتخاذ التدابير اللازمة لترجيح كفة ميزان القوى-بطريقة شريفة-لصالحهم.
وبناء على ما سبق، يتضح أن الخطب والبيانات الصحفية وحدها ليست كافية لخلق تغيير معتبر على الساحة السياسية. وإن كان الأمر كذلك لكانت المعارضة قد تمكنت من قلب الموازين لصالحها منذ عقود، حيث إن ذلك (الخطب والبيانات الصحفية) هو الفن الوحيد الذي يجيد قادتها إتقانه. فالخطابات دون وجود حقيقي في الحياة اليومية للمواطن أرخص من حبر على ورق. فالخطاب والتشدق بالعبارات الرنانة واتهام الحكومة بالفساد-بغض النظر عن مصداقية ذلك-هو أمر متاح لكل من هبّ ودبّ، وليس-وحده- ما يجذب اهتمام الجماهير ودعمهم.
فالخطاب والتشدق بالعبارات الرنانة واتهام الحكومة بالفساد-بغض النظر عن مصداقية ذلك-هو أمر متاح لكل من هبّ ودبّ، وليس-وحده- ما يجذب اهتمام الجماهير ودعمهم.
جذب انتباه الجماهير وكسب دعمهم-طواعية دون استخدام الجيش والأجهزة الأمنية لترهيبهم وقهرهم-يتطلب إقناع الأفراد بالرسالة التي يراد تبليغها. فقناعتك أنت أنك على حق مهما كان ذلك بديهيا أو صادقا، لا تقتضي بالضرورة أن الآخرين سوف يصدقونك، أو أنهم سيتعاطفون معك إن صدقوك. فلم يشهد التاريخ أصدق من رُسل الله عليهم الصلاة والسلام، كما أنه (التاريخ) لم يشهد أقوى من المناهضة أو أشرس من المحاربة التي تعرضوا لها.
ونخلص إلى أن المعارضة هي أكبر عقبة تقف في سبيل نجاح المعارضة لأن استراتيجيتهم تقوم بحذافيرها على رسالة واحدة مفادها أنالحكومة فاسدة، بدل أن يعملوا على خلق وجود ملموس ومؤثر في حياة المواطن يبرهن على أنها (المعارضة) خيار أفضل.
كما أنه آن الأوان لأن تتخلى المعارضة (والحكومة) عن استخدام اللهجة الأبوية التّأمّرية في خطابهم للمواطن، وأن يعاملوه باحترام وتقدير باعتبار أنه هو السيد واليس المسود. فالإشارة إلى المواطن في الخطاب على أنه مغفل وجاهل، وأنه “الكلب اللي مايروم ماهو خناگو”-حتى وإن كان ذلك ضمنيا وليس علنا-هي إهانة لكرامته وأفضل وسيلة لخسارة مساندته.