
يتابع جميع الموريتانيين الوضعية الحرجة التي تمر بها بلادنا الآن بكثير من القلق بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية وما تبعها من احتجاجات واعتقالات وقطع الإنترنت بكثير من القلق والخوف على وحدة الأمة وأمن واستقرار البلد تمثل هذه الوضعية مرحلة حرجة من الصعب التنبؤ بتبعاتها الآنية، والمستقبلية، وتأثيراتها الاجتماعية، والسياسة.
من الواضح أنه هناك تضارب شديد واختلاف عميق في وجهات النظر والتجربة الميدانية حول مدى نزاهة الانتخابات بين الأطراف الفائزة والخاسرة والتي يحظى بعضها بتأييد كبير ولا يمكن تجاهله. كما أنه من الواضح أن هذه لاختلافات باقية مما يزيد من تدني مستوى ثقة الشعب في مؤسسات الدولة التي لا تكاد تكون معدومة في الأصل.
ولكن بدل أن نقحم أنفسنا في الصراع الدائر حول ما إذا كانت الانتخابات عادلة ونزيهة أم لا، وقبل أن نعلن ولاءنا ومساندتنا لهذا الطرف أو الطرف الآخر، سنحاول الإجابة على بعض الأسئلة المهمة فيما يخص العلاقة بين استقلالية المؤسسات منها على سبيل المثال: ما هي أهمية الثقة بالمؤسسات الحكومية ودورها في حفظ الوحدة والاستقرار؟ كيف وجدنا أنفسنا في المأزق الحالي؟ وكيف يتسنى إلا الخروج هذه الوضعية الحرجة؟
اهمية الثقة بالمؤسسات الحكومية:
تستمد الحكومة شرعيتها من ثقة الشعب الذي اسند اليها مهمة ادارة شؤون البلاد بطريقة بصورة محايدة تخدم المصلحة العامة دونالتحيز لفئة او طائفة على حساب أخرى. هذه الثقة هي التي تجعل الجمهور يحترم السلطة، ويساهم في انجاح سياساتها، ويطيع توجيهاتها واوامرها باعتبارها تمثل المصلحة العليا للبلد. فبدون هذه الثقة تفقد السلطة شرعيتها وحرمتها، بل وحتى قدرتها على الحكم. فلقد اثبت الواقع والتاريخ المعاصر ان بيوت الحكومات اوهن من بيت العنكبوت في مواجهة سخط وتمرد الشعب. وهنا تأتي اهمية دورالمؤسسات الحكومية كوسيلة لنيل وتعزيز ثقة المواطنين بالحكومة وسياساتها وطريقة ادارتها لمقدرات البلد وثرواته.
ولكن من أجل ان تلعب مؤسسات الدولة هذا الدور المركزي والحيوي، يجب أن ن تتمتع بقدر كاف من الاستقلالية والانفصال عن السلطةالتنفيذية. فيجب أن يكون ولاء المؤسسات الحكومية والعاملين على ادارتها للبلد وليس للسلطة التنفيذية كما يجب ان توفر للعاملين في هذهالمؤسسات السلطة والاستقلالية الازمتين لأداء هذه المهمة وحمايتهم من هيمنة وانتقام ذوي النفوذ والمناصب العالية. فبدون هذهالاستقلالية تبقي هذه المؤسسات مجرد اداة في يد السلطة تتصرف فيها كما يحلو لها.
كيف وجدنا أنفسنا في هذا المأزق الحالي؟
تواجه موريتانيًا جملة من المشاكل العصية التي تشمل الفساد الاداري، والقبلية والمحسوبية، وتدني مستويات التعليم والصحة، وانعدامالبنية التحتية، وانتشار مشاعر اليأس والتشاؤم لدى شرائح واسعة من المجتمع. لكن الكارثة الحقيقية هي انعدام وجود مؤسسات تتسمبالحياد وتصهر على حماية البلد ومصلحة المواطنين. فما دامت كافة المؤسسات والعاملين فيها يسبحون بحمد الرئيس والوزير والمديرويخرون لهم ركعا وسجدا، فلن يتمكنوا من اقناع المواطن بولائهم للدستور والقوانيين السارية وحرصهم على المصلحة العليا.
تأخذ الديكتاتورية مظاهر عدة لا تنحصر فقط في الانقلابات العسكرية وغياب الانتخابات الديموقراطية بصورة فعالة وحقيقية لتشملالسيطرة الكاملة على مؤسسات الدولة وتسخيرها لخدمة المصالح الضيقة لمن يسيطرون على زمام السلطة. ورغم ان مخاطر انعدامالاستقلالية المؤسسات الحكومية وتبعتها التامة للسلطة التنفيذية قد لا تبدو واضحة للبعض، فإن ما يجري في البلد حاليا هو أفضل مثالعلى ذلك. فبينما يعنتر موضوع الخلاف حول نزاهة الانتخابات السبب المباشر للاحتياجات الحالية وما نتج عنها من اعتقالات وحالاتوفات يؤسف لها، الا ان السبب الحقيقي هو انعدام وجود مؤسسات حكومية مستقلة عن السلطة التنفيذية، تتمتع بمستوى عال من احتراموثقة المواطنين يخولان لها حل هذا الخلاف.
انعدام وجود مؤسسات بعيدة عن الشبه ومؤهلة للبت في موضوع نزاهة الانتخابات وإصدار حكم عادل مقبول لدى جميع الاطراف وملزملها هو ما اوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم
اي بعبارة اخري، انعدام وجود مؤسسات بعيدة عن الشبه ومؤهلة للبت في موضوع نزاهة الانتخابات وإصدار حكم عادل مقبول لدى جميعالاطراف وملزم لها هو ما اوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. والنتيجة هي ان البلد الان أصبح منقسم الى نصفين أحدهما مؤيد للرئيسالحالي والثاني معارض له. بل الاخطر من ذلك هو ان جزء كبير من النصف المعارض يتهم الحكومة وعملائها بالغش والتزوير في حين انهليست هناك هيئة محايدة بصورة حقيقية مؤهلة لحل هذا النزاع.
كيف نخرج من هذه الوضعية الحرجة؟
هذا الوضع لا يمكن ان يستمر على ما هو عليه، فمع كل انتخابات تسودها الشبهات ومع تزايد الممارسات التعسفية ضد الناشطين السياسيين والمهنيين، ومع تناقص فرص العمل النزيهة، وانعدام الخدمات الاساسية سوف تتزايد اعداد المتمردين والناقمين على الحكومات المتعاقبة ورموزها حتى تصل اعداهم الى اغلبية قادرة على فرض التغيير مهما كلف الثمن. ولكن الحكومة الحالية (والقادمة) امامها فرصة لاتخاذ خطوات ملموسة وجادة تهدف الى تغيير المسار في الاتجاه الصحيح منها:
- تشكيل لجنة وفاق وطنية تضم جميع الفعاليات المدنية والسياسة ذات ميزانية وصلاحيات لا تخضع لسيطرة السلطة التنفيذية تسند اليهامهمة التحقيق في تصرفات المسؤولين الحكوميين بكافة مستوياتهم وتوفير نتائجها للجمهور عبر وسائل الاعلام الرسمية والمستقلة. يجبان توفر لهذه اللجنة جميع الامكانيات المادية والبشرية اللازمة لأداء مهمتها بشفافية وصرامة كاملتين، اضافة الى امكانية احالة من يشتبهفي ارتكابهم اعمالا مخالفة للقوانين للمباحث الجنائية والمحاكمة.
- الفصل التام لمؤسسات النظام القضائي من قضاة ومحققين عن السلطة التنفيذية وخلق مناخ وآلية تخول لهم الاستقلالية وممارسة مهنتهمبعيدا عن هيمنة ذوي السلطة والنفوذ المالي والاجتماعي، اضافة الى فرض نظام مراقبة صارم لمنع العاملين في الأجهزة القضائية مناستغلال مناصبهم لتحقيقي مكاسب شخصية.
- خلق مكتب دارسات غير حزبي تابع للبرلمان وحده مهمته توفير الاعداد تقارير تقنية ومهنية لدراسة المشاريع المطروحة فبل مداولتهاوالمصادقة عليها لجعل عملية النقاش والتصويت أكثر منهجية وشفافية.
على الحكومة إدراك انها قد فقدت ثقة نصف المصوتين وهو امر لا يمكن اهماله، وانه من الحكمة السعي الي ترميم هذه الثقة وبنائها منجديد قبل ان تتحول الامور من سيء الى اسوء. ورغم ان الخطوات المذكورة اعلاه ليست سوى بداية متواضعة الا انها، إذا تم تطبيقها، ستمثل مؤشرا جديا على رغبة الحكومة الحالية في تحضير مناخ ملائم للمصالحة الوطنية واسترداد ما يمكن استرجاعه من الثقة التيفقدتها حسب ما أظهرته النتائج الرسمية لانتخابات الاسبوع الماضي. فثقة الجماهير هي الضمان الوحيد لاستقرار ووحدة البلد.