
تمت إحالة ولد غده إلى السجن بناء على شكوى اتهم فيها ب “الافتراء والقذف، ونشر معلومات مزيفة عن الغير عبر الإنترنت”1 تتنافى إحالة هذا الرجل إلى السجن بمجرد تقديم شكوى ضده باتهامات لا زالت قيد التحقيق مع مبادئ العدالة، كما أنها عقوبة تعسفية لا تتناسب مع طبيعة الاتهامات، خصوصا مع العلم أن المتهم المسجون لا يمثل أي خطر على الأمن والسلامة العامين. فهو ليس متهما بمحاولة الإطاحة بالنظام، أو السطو المسلح، أو باستخدام العنف.
تشير مجريات هذه القضية- لشديد الأسف-إلى أن القضاء في بلادنا لا زال يفتقد إلى الموضوعية والاستقلالية حيث أنه لم تتعرض الشركة المذكورة، أو أي من مسيريها للسجن- أو حتى للمساءلة من طرف النيابة العامة- بعد أن اتهمهم ولد غدة “بارتكاب جرائم فساد، وتبديد أموال، عبر تنفيذ مشاريع عمومية بطريقة غير مكتملة، وغير مطابقة للمواصفات الفنية”. لكن ولد غده بالقابل أحيل إلى السجن فور اتهامه بالافتراء والقذف. اتهامات- حتى وإن ثبتت- أقل حدة وبشاعة وتأثير على المجتمع من تهمة الفساد وتبذير الأموال العامة الموجهة لشرك BIS TP Sarl.
إن أحداث هذه القضية تثير تساؤلات لها أبعاد غاية في الاهمية والخطورة من تنفيذ-أو الافتقار الى تنفيذ-مبادئ العدالة و حماية المواطنين و حرياتهم بما فيها حرية التعبير. ولكن سأركز في هذا النقاش على النقاط التالية:
أولا: المتهم بريء حتى تثبت إدانته
هذا مبدأ قانوني مقدس يمثل حجر الأساس لجميع الإجراءات القانونية والجنائية، والأهم من ذلك كله أنه مبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية السمحة. فالأصل هو البراءة حتى تثبت التهمة. لكن مع ذلك يمتلك القاضي صلاحية سجن المتهم في حالات استثنائية يرى فيها الأول (القاضي) أن الثاني (المتهم) يمثل خطرا جسيما على الأمن والسلامة العامين يبرر سجنه.
يعتبر السجن ثاني أقصى عقوبة-بعد عقوبة الإعدام-تهدف إلى مصادرة حرية وحقوق المسجون. فقرار سجن المتهم يتطلب مبررات مقنعة من غير المرجح أنها تتحقق في هذه الحالة
يعتبر السجن ثاني أقصى عقوبة-بعد عقوبة الإعدام-تهدف إلى مصادرة حرية وحقوق المسجون. فقرار سجن المتهم يتطلب مبررات مقنعة من غير المرجح أنها تتحقق في هذه الحالة. فالمتهم لا يمثل أي خطر على أمن المواطنين واستقرار البلد. ولذلك، يبدو من التعسف سجن متهم ما زالت التهم الموجهة إليه قيد التحقيق، ولم يصدر حكم قضائي يثبت ارتكابه جريمة أو مخالفة تبرر حرمانه من حقوقه المدنية التي منّ الله عليه بها. هذا ما تمليه مبادئ العدالة والمساواة أمام القضاء. زيادة على ذلك، فإنه من المثير للرعب أن تكون السلطات الجنائية والقضائية التان تسند إليهما مهمة صيانة هذه الحقوق وحمايتها، أول من يفرط في هذه المهمة.
ثانيا: العقاب لا يتناسب مع حجم التهمة المزعومة
لقد تم سجن ولد غدة في الوقت الذي لا تزال فيه إجراءات هذه القضية في أيامها الأولى وكأنه وحش مفترس يجب أن يرمى به في قفص حديدي حماية للأمن والاستقرار، رغم أن الأمر أبعد ما ما يكون من ذلك. فأقصى ما يمكن أن يقوم المتهم بفعله في هذه الحالة هو نشر بيانات أو وثائق تهتم بفضح حالات فساد أخرى. اتهامات من الأرجح أن تكون حقيقية لأن تفشي الفساد في أقطاب وأركان المؤسسات الخاصة والعامة في موريتانيا مسلمة لا جدال فيها، حتى من طرف أعضاء الحكومة حيث يزعمون أنهم يخوضون معركة ضارية لمحاربته، اعترافا منهم بمدى استفحال هذه المعضلة.
إذا كان ذنب المتهم (الذي لم يصدر بعد حكم ضده) من العظمة بمكان يستوجب عقابه، كان بالإمكان فعل ذلك دون اللجوء إلى سجنه من خلال الإقامة الإجبارية، أو حجز جواز سفره، إلى غير ذلك من الوسائل التي لا ترقى إلى درجة السجن .فالتنبيه إلى حالات يُشتبَه أن تكون فسادا أو تبديدا للأموال العامة- إذا لم يكن خدمة وطنية- لا يرقى إلى جريمة يستحق مرتكبها أن يرمى به مع القتلة وغيرهم من ذوي الجرائم العنيفة.
ثالثا: ايصوع الزرگة و ايخلي الزراگ
من الغريب أنه لم تتعرض- أو على الأقل لم نسمع عن تعرضها- الشركة التي اتهمها ولد غدة بالفساد، أو أي من المسؤولين القائمين على تسييرها إلى الاعتقال أو حتى المساءلة. التحقيق في اتهامات ولد غدة لهذه الشركة بالفساد يجب أن يكون جزء من هذه القضية إن لم يكن معظمها لأنه يتعلق بالممتلكات العامة.
من جهة أخرى، تمثل هذه القضية فرصة للبرلمان الذي يجب أن يصدر قوانين تحمي من يفضح الجرائم والفساد من الملاحقات القانونية التي يتعرض لها من قبل ذوي النفوذ والسلطة، ومنحهم مكافآت يتناسب نوعها وحجمها مع الجرائم التي يتم فضحها. وهناك أمثلة عديدة لهذه القوانين في الدول التي تثمن فضح الجرائم وتعتبر سلطتها القانونية أكثر مصداقية، كالولايات المتحدة، على سبيل المثال.
هذه الحالة قد تكون لها تداعيات أسوأ بكثير من سجن رجل واحد، رغم عظمة ذلك وفظاعته
وخلاصة القول هي إن هذه الحالة قد تكون لها تداعيات أسوأ بكثير من سجن رجل واحد، رغم عظمة ذلك وفظاعته. هذه الحالة يمكن أن تكون سابقة تستخدم ضد كل من يمارس حقه في حرية التعبير أو يحاول فضح حلات الفساد والرشوة واستغلال النفوذ والسلطة.
هل يعني هذا أنه لن يعود بإمكان أي أحد التبليغ عما يشتبه فيه بأنه فساد أو استبداد
فمثلا، اتهمت أصوات عديدة الحكومة الموريتانية بالخيانة وبيع البلد للأوروبيين في إطار التعاون القائم بين الجهتين في مجال مكافحة الهجرة غير النظامية. فما الذي يمنع محكمة أو نيابة عامة من اتهام هذه الأصوات ب “الافتراء والزور والقذف” وإحالتهم فورا إلى السجن لإسكاتهم ومعاقبتهم؟ أليست الخيانة وبيع الوطن تهم أكثر حدة وشناعة من تهمة الفساد؟ هل يعني هذا أنه لن يعود بإمكان أي أحد التبليغ عما يُشتبَه فيه بأنه فساد أو استبداد؟ هل يعني هذا أن حماية حرية التعبير سوف تقتصر على من يمتلك السلطة والنفوذ من أثرياء البلد وأصحاب المناصب العالية وأن السجن سيكون عاقبة كل من يفتح فمه بشطر كلمة؟
كنا في الماضي لا نجرؤ على انتقاد الحكومة خوفا من غطرسة زبايتها وقد كافح العديد وماتوا وعذبوا من أجل تحقيقي المكاسب المتواضعة التي نمتع بها اليوم. فهل سنقبل أن تنبعث زبانية الماضي من قبورها في صورة مالكي المؤسسات وغيرهم من ذوي النفوذ ليقطعوا لسان كل من يتجرء علي انتقادهم متخفين وراء جيوش من القضاة والمحاكم والشرطة تقوم بتنفيذ رغباتهم؟
ما يتعرض له ولد غده الآن سيوفر الإجابة على هذه الأسئلة و سوف يُبين مدى تحكم ذوي السلطة والنفوذ في نظام القضاء والجنايات في بلدنا. هذه القضية تمثل إحدى نقاط التحول التي ستحدد نقطه مرجعية في مسار البلد التي أرجو أن لا تكون في الاتجاه الخاطئ.
- https://alakhbar.info/?q=node/53312 ↩︎